الأربعاء، 16 مارس 2011

تفسير: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ" (منقول)

{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)}
 [سورة إبراهيم (14): الآيات 42 الى 43]

قوله تعالى: (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) وهذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد أن أعجبه من أفعال المشركين ومخالفتهم دين إبراهيم، أي أصبر كما صبر إبراهيم، وأعلم المشركين أن تأخير العذاب ليس للرضا بأفعالهم، بل سنة الله إمهال العصاة مدة. قال ميمون بن مهران: هذا وعيد للظالم، وتعزية للمظلوم. (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ)
{ ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون ، إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار ، مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتد إليهم طرفهم ، وأفئدتهم هواء } . .
والرسول صلى الله عليه وسلم لا يحسب الله غافلاً عما يعمل الظالمون . ولكن ظاهر الأمر يبدو هكذا لبعض من يرون الظالمين يتمتعون ، ويسمع بوعيد الله ، ثم لا يراه واقعاً بهم في هذه الحياة الدنيا . فهذه الصيغة تكشف عن الأجل المضروب لأخذهم الأخذة الأخير ، التي لا إمهال بعدها . ولا فكاك منها . أخذهم في اليوم العصيب الذي تشخص فيه الأبصار من الفزع والهلع ، فتظل مفتوحة مبهوتة مذهولة ، مأخوذة بالهول لا تطرف ولا تتحرك . ثم يرسم مشهداً للقوم في زحمة الهول . . مشهدهم مسرعين لا يلوون على شيء ، ولا يلتفتون إلى شيء . رافعين رؤوسهم لا عن إرادة ولكنها مشدودة لا يمكلون لها حراكاً . يمتد بصرهم إلى ما يشاهدون من الرعب فلا يطرف ولا يرتد إليهم . وقلوبهم من الفزع خاوية خالية لا تضم شيئاً يعونه أو يحفظونه أو يتذكرونه ، فهي هواء خواء . .
هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه . حيث يقفون هذا الموقف ، ويعانون هذا الرعب . الذي يرتسم من خلال المقاطع الأربعة مذهلاً آخذاً بهم كالطائر الصغير في مخالب الباشق الرعيب :
{ إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم ، لا يرتد إليهم طرفهم ، وأفئدتهم هواء } .
فالسرعة المهرولة المدفوعة ، في الهيئة الشاخصة المكرهة المشدودة ، مع القلب المفزع الطائر الخاوي من كل وعي ومن كل إدراك . . كلها تشي بالهول الذي تشخص فيه الأبصار . .
هذا هو اليوم الذي يؤخرهم الله إليه ، والذي ينتظرهم بعد الإمهال هناك . فأنذر الناس أنه إذا جاء فلا اعتذار يومئذ ولا فكاك . . وهنا يرسم مشهداً آخر لليوم الرعيب المنظور :
{ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب ، فيقول الذين ظلموا : ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل . أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال؟! وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ، وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال؟ } . .
أنذرهم يوم يأتيهم ذلك العذاب المرسوم آنفاً ، فيتوجه الذين ظلموا يومئذ إلى الله بالرجاء ، يقولون :
{ ربنا } . .
الآن وقد كانوا يكفرون به من قبل ويجعلون له أنداداً!
{ أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل } . .
وهنا ينقلب السياق من الحكاية إلى الخطاب . كأنهم ماثلون شاخصون يطلبون . وكأننا في الآخرة وقد انطوت الدنيا وما كان فيها . فها هو ذا الخطاب يوجه إليهم من الملأ الأعلى بالتبكيت والتأنيب ، والتذكير بما فرط منهم في تلك الحياة :
{ أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال؟! } . .
فكيف ترون الآن؟! زلتم يا ترى أم لم تزولوا؟! ولقد قلتم قولتكم هذه وآثار الغابرين شاخصة أمامكم مثلاً بارزاً للظالمين ومصيرهم المحتوم :
{ وسكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال } . .
فكان عجيباً أن تروا مساكن الظالمين أمامكم ، خالية منهم ، وأنتم فيها خلفاء ، ثم تقسمون مع ذلك :
{ ما لكم من زوال } !
وعند هذا التبكيت ينتهي المشهد ، وندرك أين صاروا ، وماذا كان بعد الدعاء وخيبة الرجاء .
وإن هذا المثل ليتجدد في الحياة ويقع كل حين . فكم من طغاة يسكنون مساكن الطغاة الذين هلكوا من قبلهم . وربما يكونون قد هلكوا على أيديهم . ثم هم يطغون بعد ذلك ويتجبرون؛ ويسيرون حذوك النعل بالنعل سيرة الهالكين؛ فلا تهز وجدانهم تلك الآثار الباقية التي يسكنونها ، والتي تتحدث عن تاريخ الهالكين ، وتصور مصائرهم للناظرين . ثم يؤخذون إخذة الغابرين ، ويلحقون بهم وتخلوا منهم الديار بعد حين!
ثم يلتفت السياق بعد أن يسدل عليهم الستار هناك ، إلى واقعهم الحاضر ، وشدة مكرهم بالرسول والمؤمنين ، وتدبيرهم الشر في كل نواحي الحياة . فيلقي في الروع أنهم مأخوذون إلى ذلك المصير ، مهما يكن مكرهم من العنف والتدبير :
{ وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم . . وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال } . .
إن الله محيط بهم وبمكرهم ، وإن كان مكرهم من القوة والتأثير حتى ليؤدي إلى زوال الجبال ، أثقل شيء وأصلب شيء ، وأبعد شيء عن تصور التحرك والزوال .

فإن مكرهم هذا ليس مجهولاً وليس خافياً وليس بعيداً عن متناول القدرة . بل إنه لحاضر { عند الله } يفعل به كيفما يشاء .
{ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله . إن الله عزيز ذو انتقام } . .
فما لهذا المكر من أثر ، وما يعوق تحقيق وعد الله لرسله بالنصر وأخذ الماكرين أخذ عزيز مقتدر :
{ إن الله عزيز ذو انتقام } . .
لا يدع الظالم يفلت ، ولا يدع الماكر ينجو . . وكلمة الانتقام هنا تلقي الظل المناسب للظلم والمكر ، فالظالم الماكر يستحق الانتقام ، وهو بالقياس إلى الله تعالى يعني تعذيبهم جزاء ظلمهم وجزاء مكرهم ، تحقيقاً لعدل الله في الجزاء .
وسيكون ذلك لا محالة :
{ يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات } . .
ولا ندري نحن كيف يتم هذا ، ولا طبيعة الأرض الجديدة وطبيعة السماوات ، ولا مكانها؛ ولكن النص يلقي ظلال القدرة التي تبدل الأرض وتبدل السماوات؛ في مقابل المكر الذي مهما اشتد فهو ضئيل عاجز حسير .
وفجأة نرى ذلك قد تحقق :
{ وبرزوا لله الواحد القهار } . .
وأحسوا أنهم مكشوفون لا يسترهم ساتر ، ولا يقيهم واق . ليسوا في دورهم وليسوا في قبورهم . إنما هم في العراء أمام الواحد القهار . . ولفظة { القهار } هنا تشترك في ظل التهديد بالقوة القاهرة التي لا يقف لها كيد الجبابرة . وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال .
ثم ها نحن أولاء أمام مشهد من مشاهد العذاب العنيف القاسي المذل ، يناسب ذلك المكر وذلك الجبروت :
{ وترى المجرمين يومئذ مقرّنين في الأصفاد سرابيلهم من قَطران وتَغشى وجوههم النار } . .
فمشهد المجرمين : اثنين اثنين مقرونين في الوثاق ، يمرون صفاً وراء صف . . مشهد مذل دال كذلك على قدرة القهار . ويضاف إلى قرنهم في الوثاق أن سرابيلهم وثيابهم من مادة شديدة القابلية للالتهاب ، وهي في ذات الوقت قذرة سوادء . . { من قطران } . . ففيها الذل والتحقير ، وفيها الإيحاء بشدة الاشتعال بمجرد قربهم من النار!
{ وتغشى وجوههم النار } . .
فهو مشهد العذاب المذل المتلظي المشتعل جزاء المكر والاستكبار . .
{ ليجزي الله كل نفس ما كسبت . إن الله سريع الحساب } . .
ولقد كسبوا المكر والظلم فجزاؤهم القهر والذل . إن الله سريع الحساب . فالسرعة في الحساب هنا تناسب المكر والتدبير الذي كانوا يحسبونه يحميهم ويخفيهم ، ويعوق انتصار أحد عليهم . فها هم أولاء يجزون ما كسبوا ذلاً وألماً وسرعة حساب!
وفي النهاية تختم السورة بمثل ما بدأت ، ولكن في إعلان عام جهير الصوت ، عالي الصدى ، لتبليغ البشرية كلها في كل مكان :
{ هذا بلاغ للناس ، ولينذروا به ، وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولوا الألباب } .
إن الغاية الأساسية من ذلك البلاغ وهذا الإنذار ، هي أن يعلم الناس { أنما هو إله واحد } .

. ولا بد من تتبع الهيئات والصور في كل وضع وفي كل وقت لإدراك طبيعة الأنظمة والمناهج القائمة ، وتقرير ما إذا كانت توحيداً أم شركاً؟ دينونة لله وحده أم دينونة لشتى الطواغيت والأرباب والأصنام!
والذين يظنون أنفسهم في « دين الله » لأنهم يقولون بأفواهم « نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله » ، ويدينون لله فعلاً في شؤون الطهارة والشعائر والزواج والطلاق والميراث . . بينما هم يدينون فيما وراء هذا الركن الضيق لغير الله؛ ويخضعون لشرائع لم يأذن بها الله وكثرتها مما يخالف مخالفة صريحة شريعة الله ثم هم يبذلون أرواحهم وأموالهم وأعراضهم وأخلاقهم أرادوا أم لم يريدوا ليحققوا ما تتطلبه منهم الأصنام الجديدة . فإذا تعارض دين أو خلق أو عرض مع مطالب هذه الأصنام ، نبذت أوامر الله فيها ونفذت مطالب هذه الأصنام . .
الذين يظنون أنفسهم « مسلمين » وفي « دين الله » وهذا حالهم . . عليهم أن يستفيقوا لما هم فيه من الشرك العظيم!!!
إن دين الله ليس بهذا الهزال الذي يتصوره من يزعمون أنفسهم « مسلمين » في مشارق الأرض ومغاربها! إن دين الله منهج شامل لجزيئات الحياة اليومية وتفصيلاتها . والدينونة لله وحده في كل تفصيل وكل جزئية من جزيئات الحياة اليومية وتفصيلاتها فضلاً على أصولها وكلياتها هي دين الله ، وهي الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه .
وإن الشرك بالله لا يتمثل فحسب في الاعتقاد بألوهية غيره معه؛ ولكنه يتمثل ابتداء في تحكيم أرباب غيره معه . .
وإن عبادة الأصنام لا تتمثل في إقامة أحجار وأخشاب؛ بقدر ما تتمثل في إقامة شعارات لها كل ما لتلك الأصنام من نفوذ ومقتضيات!
ولينظر الناس في كل بلد لمن المقام الأعلى في حياتهم؟ ولمن الدينونة الكاملة؟ ولمن الطاعة والاتباع والامتثال؟ فإن كان هذا كله لله فهم في دين الله . وإن كان لغير الله معه أو من دونه فهم في دين الطواغيت والأصنام . . والعياذ بالله . . !
{ هذا بلاغ للناس ، ولينذروا به . وليعلموا أنما هو إله واحد ، وليذكر أولوا الألباب } .
(في ظلال القرآن)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق